ليلة الثامن من يونيو 2003   
08/06/2013

في ليلة الثامن من سنة 2003 كنت أغط في سبات عميق ملتويا كالأفعى حول وسادتي المدللة،فجأة استيقظت مذعورا من ذلك الضجيج الذي يخف تارة وتارة يشتد، كانت جدتي تُتَمتم بكلام أظنه دعاء، وكان "خالي" أمام المنزل يدور موجها بصره إلى السماء يتابع مصدر الضجيج.



بعد لحظات قليلة من الدوران أمام البيت دخل "خالي" الذي أصابه الدوار من ذلك، وبادر جدتي بالقول: إنه "عَلِكَبْتَيْرْ".

دار بينهما حوار حول هوية "العليكبتير" وسرعان ما توقفوا عن محاولة إيجاد تفسير له تاركين الإجابة للصباح الذي بدأ يقترب.

تسللت إلى حضن جدتي ونمت بطمأنينة أكثر، وفي الصباح كانت توقظني الشيخ ... الشيخ...

فتحت عينيي ونظرت في تجاعيد وجهها البهي، وجلست على ركبي لأزدرد من الحساء (النشاء) كوبا صغيرا، واندفعت نحو الباب، فجأة وقبل أن أصل العتبة سمعت صوتا يشبه الرعد في دندنته، فتوقفت مذعورا..

ــ ماهذا ياجدتي؟؟

ـــ الله أعلم... منذ قُبيل الفجر ونحن نسمع أصواتا ونشاهد أضواء في سماء المدينة غير طبيعية، لكن "خالَكَ" الذي خرج قبل قليل ربما يعود بالخبر اليقين.

بعد ساعة من الخوف الذي تملكني، عاد "خالي" من عمله يهرول، ونادى عند باب الدار:

ــ إنه انقلاب ، انقلاب انقلاب ، ومازال لم ينجح، والجيش في مواجهة ميدانية مع الانقلابيين.... وأردف:

ــ هيا بنا إلى "البادية"، لملموا أمتعتكم بسرعة، وأنا سأحضر لكم السيارة، لايتخلف أي منكم، المقام هنا غير مناسب وشديد الخطور، الرصاص الطائش يقتلع الرؤوس فاحترسوا، ولايصعدنَّ أحد منكم إلى سطح المنزل فالخطورة تكمن في الرصاص الذي أطلق في الجو...

قال هذا وراح يحضر السيارة، وشرعت أنا أساعد جدتي وباقي أفراد الأسرة في لملمة المتاع، وكان مما ساءني أن دراجتي الهوائية لحجمها لم نتمكن من تكديسها مع المتاع في السيارة.

جلستْ جدتي في المقعد الأمامي وجلست في حضنها، وتزاحم البقية في المقاعد الخلفية، وانطلقنا نحو "تكند"(جنوب العاصمة).

وصلنا متأخرين في الزوال وذلك لكثرة الفارين من المعركة بالعاصمة إلى المناطق النائية خوفا على أرواحهم. كنت طوال الطريق أفكر في صديقي "الحرطاني": سعيد، الذي كنت أعتبره أخا مقربا، ولم أكن أحتمل الغياب عنه يوما واحدا؛ فكرت أن أسرته لن تذهب إلا إلى كوخها المتآكل في زاوية الحي، وأنه لامحالة هالك، وبدأت أحبس الدمع في عيني وأخفي كل وجهي حتى لايعلم شخص بما أفكر فيه.

وصلنا "تكند" بعد لأي، وبدأنا في التأقلم مع المنزل الجديد، وبدأ الوافدون من أهل المدينة من جيران يتهافتون علينا بين متسائل عن الوضع بالعاصمة، وبين من يأتي ليسرد قصة أو تحليلا... كنت أسمعه كما لو كان نوعا من القصص التي تحكيها لي جدتي بالليل، رغم أني فطنت لارتباطه بالواقع الذي نحن فيه تلك اللحظة!

هنا في مقامنا بتكند كنت أرقب الطريق المعبد(كدروه) من بعيد، وكانت السيارات العسكرية والمدافع المنصوبة عليها مشهدا متكررا يجعلني في حيرة مما أشاهد.

وفي مساء اليوم الموالي وبينما كنت جالسا قرب جدتي المهمومة رأيت أطفالا في عمري يلعبون بالقرب من منزلنا فنهضت متوجها صوبهم واقتربت منهم راغبا في مشاركة اللعب، كانوا يرددون: "دبابه .. دبابه .. دبابه .. يغنون بها تارة وتارة يقهقهون وكأن في الكلمة مغزى لم أطلع عليه.

عدت إلى أسرتي أمشي الهوينا وأفكر بالكلمة مع كل خطوة أخطوها، دخلت على خالي وسألته:

ــ مامعنى دبابة؟؟!!

رد علي: ــ إنها كالسيارة الضخمة، لكن بها مدفعا فوهته تتسع لجمجمة طفل بسنك.

هنا بدت علي علامات الذعر وانتابني شعور من الخوف لايوصف.

حاولت الاقتراب من جدتي وطرحت عليها نفس السؤال، فردت علي: ــ و مالذي تريد بمعناها؟

حكيت لها ماسمعت من الأطفال قرب المنزل، ففهمت قصدي وقالت إن الانقلاب الذي أفزعنا فشل، وإن الرئيس قضى على الانقلابيين "دبابة دبابة" وأننا سنعود للعاصمة في اليوم الموالي.

كانت هذه لحظات تحضرني اليوم من تلك الفترة التي لا أكاد أذكرها بتفاصيلها التراجيدية، حين اهتز عرش السلطان، وتحولت عاصمة بأكملها إلى ميدان للمواجهة بين جيش و "متمردين"، وقُتل العقيد الذي يُشهد له بالخلق الحسن، وضاع دمه بين الفرقاء... وحدث ماحدث مما مهَّد لموجة انقلابية اجتاحت وطننا العزيز، ومازلنا حتى اللحظة نعيش نتاجا لها تفتَّقَ عن الأشواك قبل مرحلة النضج!.
تحياتي

الشيخ ولد مزيد
aqlame


جريدة مستقلة رقم الترخيص 003 بتاريخ 19/1/2006 المقر : الحي الجامعي م 583 تلفون 00 (222) 46319207 انواكشوط ـ موريتانيا

contact@journaltahalil.com:البريد الألكتروني
تحاليل 2006-2022 جميع الحقوق محفوظة