أزمتنا التعليمية : الخلفيات والحلول ..    
26/04/2013

يتحدث الكثيرون اليوم عن حالة التعليم بشكل عام، على مستوى العالم أجمع وما تتسم به تلك الحالة من هشاشة وضعف، ويقف بعض المختصين موقفا يبدو أقل اندهاشا من الحالة التي وصل إليها التعليم نظرا لبعض المفاهيم التي جدت على مستوى التخطيط له،



والتي هي من قبيل: دَمَقرطة التعليم، والعدالة في توزيعه، ونظرا للطفرة المتزايدة في عالم الاتصال والتقنية وما تسببه من انشغال للمعلم والتلميذ على حدّ السواء، ويعتقد أولئك أن الحالة التي يعيشها التعليم في أي قطر هي حالة لا تخصه بكل تأكيد، بما في ذلك الدول المتقدمة أيضا، وإنما هي مُعطَى نتوقع من خلاله نفسَ المعاناة في البلدان المتشابهة؛ حيث أصبحت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تفرز واقعا ثقافيا وتربويا مشابها لحالة تلك الأوضاع، مما يعني أن الحالة التعليمية العامة غير مريحة وتعبر عن وجود أزمة في التعليم حقيقية ، قد تتفاوت حدتها من بلد لآخر، لكنها موجودة وحاضرة في كل بلد.

وإذا كان من الثابت أن العولمة أصبحت تعني العدالة في توزيع المشاكل والفقر والمعاناة على مستوى المعمورة، فإنه من المؤكد كذلك أن ذلك الواقع ليس قدرا لا بد لنا من تقبله وبلع نتائجه بحلوها ومُرّها، بل لا بد أن ندفع من الجهد والتخطيط قدر ما تعانيه قطاعاتنا وسوف تكون النتائج – بإذن الله - على قدر الجهد المبذول حينئذٍ، والدليل على ذلك وجود بعض البلدان التي خرجت من ذلك الواقع واستطاعت دحره على مستويات عدة ونجحت في ذلك بنسب كبيرة؛ كما هو الحال في مجموعة نمور الشرق الآسيوي خصوصا مع كل من كوريا وماليزيا وسنغفورة..

التعليم في خدمة المواطنة والسلم الأهلي :

قد يظن البعض أن الْهَمَّ المحمول على عاتق المؤسسة التعليمية هو مجرد المعرفة، وليس ذلك بصحيح، فالتعليم أصبحت نجاعته لا تقاس بمخرجاته المعرفية أو التقنية فحسب، بل لا بد من النظر أيضا إلى خدمة المجتمع من خلال قدرته على صياغة الشعور الوطني لتلك المخرجات وخلق مستويات من الأحاسيس والهموم المشتركة، وبناء مستويات متقاربة لطموحات أفراده وأهدافهم وهو ما يترجَم عادة تحت عنوان التعليم في خدمة المواطنة أولا، لأن التعليم إذا كان متطورا ومنتجا وكانت الأوطان التي ترعاه موزعة في خنادق وجبهات متصارعة فهو قد خلا من أهم معانيه الداخلية ألا وهو خدمة السلم الأهلي، وغدا في أحسن الأحوال إنتاجا مكلفا لا يصلح إلا للتصدير، وبكل تأكيد فإن خسارته ستكون كبيرة ولا تساوي العائدات المتوقعة أن تعود إلى البلد عبر استثمار تلك المخرجات في بلدان أخرى .

ولا شك أن التعليم في بلادنا قد فشل فشلا ذريعا في هذا الجانب فهو لم يستطع بعد خلق سمات المواطنة الموريتانية عبر مخرجاته على مدار نصف قرن من الزمن، بل إن بلورة مفهوم المواطنة وعلاقته بمفهوم الدولة لم تكن واضحة فيما هو ملاحظ من سماتٍ لدى تلك المخرجات. ولا ريب أن مردَّ ذلك يعود إلى غياب التهديف وعدم تحديد الاستيراتيجات المتبعة، والغايات المرجوة منه بعناية أثناء تصميم الخطط التربوية والتعليمية التي سيرت المؤسسة التربوية في بلادنا ما بعد الاستقلال الوطني، وأكبر شيء نَنقِمه على ذلك القطاع عجزه الكبير عن إيجاد بيئات اتصال موحدة يتم من خلالها إدارة التواصل بين بعضنا البعض، رغم هذه الفترة الطويلة؛ حيث بات لكل مكون من مكونات هذا البلد وسائله الخاصة في التواصل والتي تخصه دون غيره، وهو دليل على عشوائية التخطيط وتلاعب القوى الوطنية وغيرِها بهذه المؤسسة المهمة، وكل الإصلاحات التي تمت من بداية السبعينات وحتى وقتنا الراهن كانت تتم خبط عشواء وأحيانا كثيرة لخدمة حسابات إقليمية ودولية مقابلة دعم محدود من أحد الأطراف لهذه الخطة أو لتلك حسب قربها أو بعدها من استيراتيجياته ومخططاته في البلد.

إن المتأمل في قنواتنا التلفزيونية الرسمية والخاصة يجد العجب كل العجب من أفراد موريتانيين في قطاعات رسمية ومدنية ذات حيوية كبيرة، يلتقون في برنامج تلفزيوني لنقاش بعض القضايا الوطنية يحتاج كل منهم أن تقدم له خدمة الترجمة الفورية لعدم قدرته على فهم كلام الطرف الآخر والجميع قد يكون تخرج من مدارس ابتدائية وثانوية وجامعية واحدة، أما المواطن المستهدف بتلك النقاشات فحدث عن حاله التعس مع تلك الحوارات ولا حرج، إذ لن يستفيدَ منها الكثيرَ لتشتت انتباهه وضياع تركيزه حيث يغادر الجلسة - على الأقل- بذهنه أثناء المداخلات التي لا يستوعبها، وهو أمر أصبح له وجود حتى على مستوى المسرح أيضا والرياضة وبعض الفعاليات الثقافية الأخرى ،إن هذه الحالة دليل على عدم جدية خططنا التربوية في الماضي وغياب البعد الاستيراتيجي فيها.

ولا أقصد هنا لغة بعينها أقصيت أم أدنيت فهذا أمر ثانوي بالنسبة لي، لكن الذي يعنيني هنا هو ضرورة وجود لغة تسهم في خلق وحدتنا الوطنية عبر دمج نفسياتنا وقِيّمنا الثقافية والحضارية في صيغ قابلة للتداول بيننا على مستوى حياتنا المدنية والاجتماعية .

التعليم في خدمة حاجات الأفراد والمجتمعات :

لقد انكمش المفهوم التقليدي الذي يجعل المعرفة ترفا فقط، وإذا كان هذا المفهوم لا تزال له بقية فستكون على المستوى الفردي فحسب، ذلك أن المجتمعات والدول ليس من أولوياتها أن تنفق على التعليم من أجل الترف المعرفي، وحاجتها ماسة وملحة لتخصصات ذات أولوية محددة ، كحاجتها إلى الأطباء و المهندسين والفنيين في شتى القطاعات... ومن هنا فإن الخطط التعليمية الجادة تضع حاجاتها المحلية نصب أعينها خلال خطة غالبا ما تصاغ على مدى عشرين سنة كأقصى حد لها، ومن ضمن الحاجات التي ينبغي أن تكون ضمن دائرة الاستهداف ،إضافة إلى حاجات أسواقنا الملية ،حجات الأسواق التي تستوعب أبناءنا بحكم محدودية قدرة أسواقنا المحلية في الوقت الراهن على استيعاب الشباب العاطل عن العمل حيث يجب أن نعمل في هذا المجال من أجل أن نخلق عمالة مكونة تكوينا متميزا يجعلها قادرة على المنافسة يتم تكوينها وفق متطلبات مهنية متخصصة لا تستغرق الكثير من عمر الفرد.

جودة التعليم من جودة تأسيسه :

وهنا أود التنبيه إلى أن المراحل التأسيسية غالبا هي التي تتحكم في مستويات التعلم لدى الفرد، فإذا لم يتوفر للطالب تأسيس جيد في بداية مشواره الدراسي فإن لعنة ذلك التأسيس ستظل تلاحقه إلى ما شاء الله، ومن هنا فمن الواجب على المؤسسة التربوية أن تعيد النظر في قطاع التعليم الأساسي من حيث المحتوى ومن حيث الكادر الذي يتولى إدارة وتنفيذ العملية التربوية برمتها في ذلك القطاع.

فعلى المستوى الأول: لابد أن أشير هنا إلى أن قطاع التعليم الأساسي مكون من مستويات ثلاثة، وكل مستوى يتضمن سنتين اثنتين الأولى تأسيسية والثانية مراجعة لها؛ فإذا كان المستوى الأول ( سنة 1 وسنة 2 ) يتم التركيز فيه للطالب على مهارتي القراءة والكتابة، وفي المستوى الثاني ( السنة الثالثة والرابعة ) يتم التركيز على تهيئة الطالب للتعاطي مع بعض المهارات الرياضية والعلمية في مستقبله المعرفي فإن وجود لغة أجنبية في المستويين الأوليين، وقبل المستوى الثالث ( السنتين الخامسة والسادسة ) - وهو مستوى يتم تصميم مناهجه للمراجعة المكثفة - قد يكون فيه ظلم للطفل وفيه ظلم للغته الأساسية كذلك؛ فإذا كانت المراحل العمرية الأولى للطفل أكثر استعدادا لتعلم اللغات فإن اللغة الأساسية يجب أن يترك لها فرصة لخلق بيئتها الخاصة في ذهنية الطالب ثم إن مرحلة التعليم الابتدائي تمر كلها والطفل لا زال في سن مبكرة من عمره، فلو تركنا السنوات الأربع الأولى للغة الأم وركزنا على إتقانه أساسياتها و تطبيق المهارات الأساسية العلمية والرياضية من خلالها سنكون قد ساهمنا في تكوين الطفل وتأسيسه معرفيا، وحفظنا له ذهنيته من الخلط والتغبيش الحاصلين الآن حيث لا هو أتقن لغته الأولى ولا هو أتقن اللغة الثانية، و بالتالي لن تتوفر له الفرص ليتقن المهارات العلمية أيضا كما تُقَدّم له من خلال اللغة الثانية ( الفرنسية ) حسب إصلاح التعليم الأخير ( 1999م ).

وعلى مستوى الكادر : يستحسن أن ألفت الانتباه إلى أن تدني مستويات التعليم تفرض علينا بالضرورة أن نرفع مستويات الاكتتاب في التعليم الأساسي إلى المراحل الجامعية إن أردنا أن يَبقَى بين أيدينا شيء يحسن السكوت عليه من التعليم، فمن غير المقبول أن نُبقِى على توظيف خريجي المتوسطة والثانوية في مؤسساتنا التربوية، وحالة التعليم تعاني ما تعانيه من تدهور وتخلف عن مستوياتها المقبولة، ثم إن توظيف هذه المستويات لم يعد مقبولا إلا عندنا فلقد تجاوزه العالم من حولنا وأصبح التعليم الأساسي يوظف فيه ذوو الكفاءات من الخريجين الجامعيين من أجل تطويره والرقي به ميدانيا، وكذلك للمساهمة في امتصاص البطالة. أما توظيف خريجي المدارس الإعدادية والثانوية فهو لا يساهم في الحد من البطالة إلا بقدر محدود جدا إذ أمثالهم عادة لا يدخلون ضمن توصيف العاطلين عن العمل باعتبارهم لم ينهوا مشوارهم الدراسي، و الأولى بهم أن يواصلوا دراستهم، أو يوجهوا لمعاهد فنية لإكسابهم مهارات يدوية أو خبرات مهنية تؤهلهم لولوج سوق العمل .

ولو استطاعت الدولة محو الخط الفاصل بن التعليم الابتدائي والثانوي ودمجهما معا في قطاع تربوي واحد وتحت إدارة عامة واحدة لساعدها ذلك كثيرا في تحسين مستويات التعليم في البلد بحيث يكون المدرس الذي يتم اكتتابه من خرجي الجامعات مؤهل ليتولى التدريس في الصفوف الابتدائية في أحد تخصصاته ثم في الإمكان انتقاله إلى المستوى الثانوي حسب ما تمليه حاجة تلك المؤسسات، فهو بحكم تكوينه الأكاديمي يمتلك المؤهلات المناسبة وقادر على إثراء كافة المستويات بخبرته ونضجه، وهو أكثر أهلية للتدريب حسب الحاجة والاستفادة منه ، وهذا أمر معمول به في دول المشرق العربي حيث لا فرق بين مدرس في المرحلة الابتدائية، ولا في المرحلة الثانوية، لا في الراتب، ولا في الاعتبار باعتبار أن مسطرة اختيارهما، في الأصل، موحدة.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل…
Source : aqlame


جريدة مستقلة رقم الترخيص 003 بتاريخ 19/1/2006 المقر : الحي الجامعي م 583 تلفون 00 (222) 46319207 انواكشوط ـ موريتانيا

contact@journaltahalil.com:البريد الألكتروني
تحاليل 2006-2022 جميع الحقوق محفوظة