قوى العمالة تستيقظ مجددا/ محمد فال ولد سيدي   
02/11/2010

كدنا نحتسب أن صراع السبعينات مضى بكل ما انطوت عليه تجاويفه من سجلات مضيئة وحالكة. ما كان لنا أن نتصور - على عتبة الخمسينية- أناسا يحملون، دونما خجل، شعارات كانت عنوانا لمرحلة من الصراع المرير بين القوى المخلصة للوطن والقوى العميلة للاستعمار.
اليوم تعود بنا عجلة التاريخ أربعين سنة إلى الوراء؛ فنرى على مرآة السياسة أشباح



أوجه شاحبة كان همها الوحيد أن تطحن كل المعاني السامية لكلمة "كادحين"، وتمتص ما في داخلها من شرف ووطنية واستماتة، ومن ثم تستبدل كل شحناتها الموجبة بشحنات سالبة يبحث عنها العملاء في عبارات من قبيل: "الشيوعيين" و"عملاء الصين".
حملات التشويه استهدفت، في سبعينات القرن الماضي، كل كادح مسكون بحب الوطن، مولع بالمساواة، رافض لكل تمظهرات الاستعمار. أما اليوم فهي تستهدف بالأساس شخص رئيس اتحاد قوى التقدم السيد محمد ولد مولود: ذلك الكادح، الصدوق، العنيد، الرافض للابتذال.
حملات اليوم (الرافعة لشعارات الأمس والراقصة على كل نوتة رجعية) شارك فيها، أو - بالأحرى- أُشرك فيها كل من للنظام عليه منة أو له فيه مأرب سقيم: من التاجر الصرصور، إلى السياسي النـَّـبّاح، وما بينهما من حناجر طينية التفكير. فما هي في الحقيقة مآخذهم عليه، بل مآخذ الهاشـّـين عليهم بعصي المصالح الضيقة؟..
أول خلاف بين الرئيس محمد ولد مولود والنظام الحاكم برز عندما طلب العسكر من اتحاد قوى التقدم أن يساند المرشح سيدي ولد الشيخ عبد الله في الرئاسيات قبل الأخيرة مقابل كل الإغراءات المتخيلة. كانت صدمة العساكر كبيرة أمام تعنت "التقدميين" على رفض مساندة "الضيف" الكريم.
أما الخلاف الثاني فكان بسبب بيان رفـَـض فيه اتحاد قوى التقدم الانقلاب الدستوري ضد سيدي ولد الشيخ عبد الله نفسه، معززا خطوات رفضه بفضح تحركات "الكتيبة" المدنية المستخدمة لذات الغرض. بالإضافة إلى تحذير ولد مولود للجنرالين عزيز وغزواني (على قناة العربية) من مغبة الانقلاب على الحكم المدني الدستوري. كانت الصدمة أكبر لأن اتحاد قوى التقدم كان أول حزب سياسي يقود حملة رفض التغيير خارج الأطر القانونية؛ فعند الساعة العاشرة من ضحى يوم الانقلاب عبّـر ولد مولود - في تصريح نقلته قناة الجزيرة- عن شجبه للعملية في كل جوانبها، داعيا كل القوى الحية إلى التآزر لإفشال الانقلاب. وبعد أيام قلائل كان اتحاد قوى التقدم، بقيادة محمد ولد مولود، أكبر الفاعلين في إنشاء "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية". ثم كان ما كان من حملات دبلوماسية طالت كل المنابر الدولية ضغطا وشجبا من أجل العودة إلى الشرعية الدستورية. وقد لعب ولد مولود شخصيا الدور الأبرز في كل تلك الخطوات، بل خرج منها برصيد سياسي مشهود، ازداد أضعافا مضاعفة عندما شكل الشخصية الأكثر بريقا ولمعانا في جميع مراحل مفاوضات دكار.
بحث النظام عن مخرج مما وُصف بـ "ورطة الكادحين".. قدم التنازلات تلو التنازلات.. غازل ومدح وشتم وهدد. لكن شيئا لم يثن ولد مولود عن موقفه من "الديمقراطية المسروقة". هكذا أصبح النظام مرغما على وضع خطة عاجلة تقضي بعزل الرجل والسعي إلى الإلتفاف على رفاقه في منسقية المعارضة. فاستدعى عزيز كل رؤساء أحزاب المنسقية باستثناء ولد مولود الذي اعتبره "الحالة الوحيدة الميؤوس منها"؛ مما استلزم إخراج "الأظافر" وبدء عملية الخدش بعيدا عن كل معايير النقاش الفكري، فاتـُّـهم - عبر أبواق دعاية النظام- بأنه "يحطم معنويات الجنود الموريتانيين في حربهم ضد الإرهاب"، وأنه "الإبن الشرعي لمجموعة استوردت أيديولوجيات أجنبية هدامة".. "الحرب ضد القاعدة" و"الشيوعية": حبلان في مشنقة الأباطرة، بهما تسول لهم أنفسهم أن ولد مولود سيشنق فتذهب ريح الكادحين مع آخر نفس له. لكن الواقع شيء آخر، وإن كان من حقهم المطلق أن يحلموا، فليحلموا.
لقد ظل موقف ولد مولود - منذ الوهلة الأولى لحرب عزيز ضد "الإرهاب"- واضحا لا لبس فيه. فهو يرى أن الحرب وفق استراتيجية فرنسية، وتحت ضغط فرنسي، واستجابة لمخططات امبريالية، ليست ولن تكون في صالح موريتانيا سياديا وأمنيا. وأن التصدي لمثل هذه الحرب يستجيب لمشاعر الموريتانيين ويحفظ كرامتهم وأمنهم. وأن الاستقلال والسيادة يتعارضان كليا مع "الحرب بالوكالة". وأن الإرهاب المافيوي، الجاثم هنا عبر صعاليك المخدرات المُـحَصـّـنين، أخطر بكثير من جماعات مسلحة تغدو وتروح خارج حوزتنا الترابية، مع التنديد (طبعا) بكل العمليات التي شهدها الداخل: من لمغيطي، إلى الغلاوية، مرورا بانواكشوط. وقد حذر ولد مولود من أن تكون "حرب عزيز" مبررا لتدخل ما يعرف بـ "شركات الأمن الخصوصية" التي عادة ما تستخدمها دوائر المخابرات الأجنبية في الاغتيالات السياسية ومراقبة الاقتصاد ومتابعة الأفراد وتسميم الأجواء (ولعل العراق أنصع مثال).
وتحت تأثير الخطاب المولودي المقنع تساءل كثيرون: أليست شركات الأمن الخصوصية مجرد تعبير حديث عما كان يعرف بـ"المرتزقة"؟.. ألم تعث فسادا في ليبيريا والسيراليون وجزر القمر؟.. ألا يملك أصحابها – كما يملك الإرهاب المافيوي- برلمانيين وضباطا وقضاة في الكثير من البلدان التي تساهلت تجاهها؟.. أليست قادرة على صنع الإرهاب من العدم لتؤكد ضرورة اللجوء إلى خدماتها؟.. تساؤلات مشروعة في أي بلد يحترم الرأي ويعطي للنقاش قيمة.. تساؤلات واضحة تتطلب الإجابة عليها لغة جادة وآليات حوار عصري.
وإذا كان الرأي العام (وهو الحكم بين المعارضة والموالاة) قد أحسن الاستماع إلى طروحات وتساؤلات محمد ولد مولود، فإنه يقف حائرا ظمآنا إلى ردود نظام لم يزد على استثارة ثلة من الهجـّائين الشاتمين الشامتين. فميزان السياسة ظلت كفته الخاصة بالنظام خاوية من أية حجة ذات ثقل؛ مما ترتب عنه (منطقيا) نفاذية طرح ولد مولود على مستوى الجماهير العريضة.. إنها حرب الأفكار: تلك التي لم يستوعب الطرف الآخر مضامينها النبيلة؛ فلجأ إلى معجم سطحي جلــّـه لفائف من العواء والهراء. فيما أصبح واضعو استراتيجية شتم ولد مولود يعيشون بين كماشة مأساتين: الأولى تحمـّـلهم (أمام النظام) تبعات الفشل في مقارعة أفكار ولد مولود. والثانية تحملهم مسؤولية نزع هيبة رئيسهم (محمد ولد عبد العزيز) وتعريضه لنار التهجم الشخصي لسبب تآمري غامض. إن شتمك لرمز مجموعة مّا يعني أنك، عن قصد، فتحت الباب كي يُـشتم رمزك. فهل من بين عناصر الحزب الحاكم من بدأوا يجردون رئيسهم من ثوب الهيبة والقدسية الذي ألبسوه؟ أم أنها رمية من دخيل لم يعرف الرماية السياسية أبدا؟.. مهما يكن فإن لولد مولود تلامذة، شباب ويافعون، يرون فيه مثلهم الأعلى، وليست قواميس البذاءة ما ينقصهم على الإطلاق.
لندعهم إذن يتمادون في التلاعب بهيبة رئيسهم، ولنعرج على "الشيوعية" و"البول على المصاحف" و"عقوق الوالدين"، كي نعرف ماذا كانت تعني هذه "الاتهامات" في سبعينات القرن الماضي؟ ومن كانت تستهدف؟ ومن هم مفبركوها؟
لقد عارض الكادحون الوجود الفرنسي في موريتانيا (بما يمثل من تبعية ونهب وتأثير في القرارات ذات الطابع السيادي). ولم تكن فرنسا مكتوفة الأيدي أمام هذه المعارضة الشرسة؛ فقد خلقت "أصدقاء" من كل الطيف الوطني واستخدمتهم في حملات تشويهية دائمة ومركزة. وكان الكادحون يدعون هؤلاء "أصحاب الولاء الفرنسي" و"عملاء فرنسا" و"عملاء الإمبريالية". وفي حين رفع الكادحون شعارات الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، أوعزت فرنسا إلى عملائها برفع شعارات "الشيوعية والكفر"!! في وجه معارضي المسخ والاستعمار الملثم. وظل الصراع محتدما بين الكادحين والقوى الرجعية إلى أن حقق النظام جزء من المطالب الكبيرة المتمثلة في إنشاء عملة وطنية وتأميم ميفيرما ومراجعة اتفاقيات الدفاع المشترك مع فرنسا. لم تكن الإصلاحات كبيرة فحسب، بل كانت ضربة موجعة لجحافل عملاء فرنسا الذين فشلوا في النيل من سمعة تيار الرفض وفشلوا في إرضاء معشوقتهم "العظيمة".. فهل يعيد التاريخ نفسه اليوم؟.. إننا أمام وضع مشابه إلى درجة كبيرة.. وضع أشبه ما يكون بالنسخة طبق الأصل: فها هي ذي فرنسا تحاول السيطرة العسكرية على الصحاري الموريتانية (مدفوعة بروائح المحروقات)، وها هي تعلن الحرب وتدفعنا إلى خط النار (كما كانت تفعل بالمجندين الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية)، وها هي ترغم الأطراف على التفاوض لدى الإبن البار "واد"، بينما كانت قد حسمت النتيجة سلفا، وها هم الكادحون (عبر اتحاد قوى التقدم) يقفون في مقدمة معارضي الوجود الفرنسي المتنامي، وها هم يرفعون نفس شعارات السبعينات (الدعوة إلى المحافظة على السيادة الوطنية، رفض التدخل الأجنبي، المطالبة باستقلال القرار الموريتاني، ومجابهة كل مظاهر المد الامبريالي الجديد)، وها هي قوى العمالة تعود لرفع شعارات "الشيوعية والكفر" ضد الوطنيين ولصالح القوى الاستعمارية.. عود إذن على بدء: نفس الصراع.. نفس السيناريو.. نفس القوى.. نظام رهين، استعمار يتوغل، وطنيون في المواجهة، وعملاء يخدمون "السيدة العجوز".. لا يمكنك أن تصادر حرية شخص في أن يكون سافلا. لكن يمكنك أن تشفق عليه إنْ هو تظاهر بجهل التاريخ السياسي لبلاده تسكعا وراء المطالب المشروعة لأمعائه. معلوم أن الكادحين تسموا باسم "الحركة الوطنية الديمقراطية". لم يكونوا حزبا مرخصا ولا هيئة تجارية ولا منظمة غير حكومية؛ وبالتالي كانوا حركة. كانت مطالبهم منصبة على الاستقلال الوطني بمعناه السياسي والاقتصادي التام، والدفاع عن الثقافات الوطنية؛ وبالتالي كانوا حركة وطنية. وكانوا يسعون إلى بث قيم ديمقراطية تؤول إلى تحرر المرأة وفك سلاسل العبيد ومنع تسلط الأشياخ والشيوخ على مصائر المستضعفين والدفع بمطالب العمال إلى الأمام؛ وبالتالي كانوا حركة وطنية ديمقراطية، لا أكثر ولا أقل. فالحركة الوطنية الديمقراطية لم تستورد أيبديولوجيات كافرة كما يسوق عملاء فرنسا المستيقظون اليوم بعد نومة أمضت أربعين سنة. فهي خلال مسيرتها الطويلة كانت تيارا غالبية المنتمين له غير مؤدلجين؛ فهم بالأساس تجمعات مهنية عمالية نقابية طلابية ونسوية ذات مطالب وطموحات وطنية بحتة. صحيح أن المثاليْـن الفيتنامي (في دحر الاستعمار) والصيني (في الثورة الثقافية) كانا جديرين بالاهتمام وبالتالي جديرين بأن يكونا مرجعا؛ لأن الحركة الوطنية الديمقراطية تسعى- مثلهما- إلى دحر الاستعمار والتمسك بالثوابت الثقافية بما فيها ترسيم اللغة العربية وتطوير اللغات الوطنية وجعل الثقافات الوطنية أداة للثراء ورافدا لحمل العلوم والتعاطي الإيجابي مع باقي الثقافات العالمية. لم يكن ثمة مناهض للاستعمار في العالم إلا وتأثر بهذين المثالين. وللعلم فإن المناضل لادجي اتراوري كان الشاب الموريتاني الوحيد الذي التقى الزعيم الصيني ماو اتسي تونغ. لم يكن اللقاء باسم الحركة الوطنية الديمقراطية وإنما كان باسم حزب الاستقلال الإفريقي (كان لادجي حينها طالبا في فرنسا فاستدعيّ باسم هذا الحزب للسفر إلى الصين ضمن وفد متعدد الجنسيات). أما الحركة فلم تربط أية علاقة بالخارج إلا مرتين: الأولى مع جبهة البوليساريو، أواخر الخمسية الأولى من السبعينات، والثانية مع الجبهة الشعبية الفلسطينية أواخر الخمسية الثانية من السبعينات. أما الرحلة التي قادت مؤخرا بدر الدين (وبعض رفاقه البرلمانيين) إلى الصين فلم تكن سرية؛ إذ أن محركات الطائرة التي أقلتهم كانت كبيرة ذات أزيز فظيع كالحملة التي استهدفت شخص الرئيس محمد ولد مولود. وكم من برلماني قبلهم وبعدهم سافر إلى ليبيا والجزائر والمغرب وفرنسا وأمريكا. وليس في الأمر مدعاة للانتقاد لأنه يدخل في إطار العلاقات الحزبية والسياسية المشروعة.
لا نأسف إطلاقا على أن عملاء فرنسا عادوا إلى رفع شعارات السبعينات. فهم - بطبيعتهم- يستيقظون وينامون كلما استيقظت أو نامت فرنسا.. إنهم لها عون وهي لهم سند، وهم لها عين وهي لهم بطن. لكننا نأسف على أن يبلغ الحقد مستوى خلق تلفيقات تمس صميم التاريخ؛ من قبيل أن "المجموعة فشلت في أن تحصل على بعد جماهيري بسبب شيوعيتها التي تظل وصمة عار تلاحقها".. لسنا بصدد اجترار ما كتبناه عن "الشيوعية" التي يحاول البعض إلصاقها - بكل شحناتها- بالمجموعة بعد اجتثاث عبارة "الكادحين" المُـشـَـرّفة وإفراغها من معانيها النضالية السامية. وإنما من حقنا أن نسأل هؤلاء عن تعريفهم لـ "البعد الجماهيري"؛ فالمجموعة، أو الحركة سيطرت على عقول وراد الآبار (وكانوا يتغنون بأغانيها)، وهم جماهير، إن لم يحتكر عسس الأنظمة هذا الوصف لغير المستضعفين. والحركة سيطرت على المدارس والشوارع والنقابات، بل على الأودية في طمأنينتها، والربا في فورانها، والخيام في سمرياتها، والأكواخ في رقصاتها، والنساء في زغرداتها، والشيب في دعواتهم، والعجزة في ليلهم البهيم، والعبيد في أحزانهم السحيقة، والمعذبين في سجونهم، والجائعين في ترانيمهم وأناتهم.. ألا يعتبر هؤلاء بعدا جماهيريا؟ أم أن تعريف مزيفي التاريخ لـ "الجماهير" كتعريف فرنسا وأمريكا لـ "الإرهاب"؟.. لا نرى بعدا جماهيريا أنصع وأوسع انتشارا من هذه الشرائح التي عبأتها الحركة في السبعينات. أما حديثا فقد حصل المرشح محمد ولد مولود في الرئاسيات قبل الأخيرة على 31 ألف صوت رغم ضعف الوسائل ورغم مستوى الضغط المادي والمعنوي على مصوتين ما يزالون يتذوقون طعم السيبة والمخزن في أفواههم. فهل هؤلاء جماهير؟.. إنهم هم الجماهير لا سواهم؛ لأن ألف مقتنع جاد خير من مليون حرباء، وشعارا مولوديا واحدا يظل قادرا على التصدي لكل رجعي عميل يحدوه الشوق إلى كبولاني أ


جريدة مستقلة رقم الترخيص 003 بتاريخ 19/1/2006 المقر : الحي الجامعي م 583 تلفون 00 (222) 46319207 انواكشوط ـ موريتانيا

contact@journaltahalil.com:البريد الألكتروني
تحاليل 2006-2022 جميع الحقوق محفوظة