Tweet لماذا تركتُ المسرح..! / محمد الحسن ولد بوخوصة
23/03/2013
الحلقة الأولى
منذ قررت الانسحاب في صمت ذات مساء صاخب وبعد سهرة مسرحية طويلة ضمن احتفالية في دار الشباب القديمة بمناسبة اليوم العالمي للمسرح في 27 من مارس 2004 وأنا أتجنب الخوض في مسار ذلك الحلم الذي أخذ من عمري 14 سنة, تلك الفترة الطويلة التي غلفتها السعادة وعاث فيها الألم فسادا في كل زاوية من وجداني ورغم أن سنواتها قد ولت وانقضت, إلا أن الأسئلة ظلت تلاحقني من الكثيرين الذين يحق لهم أن يتساءلوا عن مصيري كإنسان تعودوا على رؤيته يرفه عنهم تارة وينتقدهم تارة أخرى ثم اختفى دون سابق إنذار..!
والآن حان الوقت لأجيب .. ولعلي بإجابتي هذه أريحهم وأريح نفسي من عناء المزيد من الأسئلة. لقد علموني في المدرسة حين كنت صغيرا قصيدة لمعروف الرصافي تمجد الفنون الجميلة مطلعها..
إن رمت عيشا ناعما ورقيقا فأسلك إليه من الفنون طريقا.. إلى آخر القصيدة..
وربما فهمت القصيدة جيدا، واهتممت بها أكثر من بقية زملائي.. وقررت في أعماقي أن أكون فنانا حين أكبر ما دامت الفنون ستريح قلبي وتسعدني وتمنحني حياة هانئة رغيدة.. ورغم أني عشت فترة طفولة بسيطة.. إلا أني كنت دائما أهتم بالتمثيل ومتابعة الأفلام والأغاني والكاريكاتير والفن التشكيلي، وكنت مقتنعا بتلك المقطوعة الجميلة التي تعلمت في المدرسة, فكلما أتيحت لي فرصة في التمثيل أو الغناء المدرسي كنت أنتهزها وأتميز فيها على نظرائي من الطلاب، ودارت الأيام وشاءت الأقدار أن أعود إلى نواكشوط قادما من المدينة الحبيبة كرو في إجازة مدرسية أذكر أنها كانت في سنة 1992.
وذات ليلة من ليالي الكزرة الهادئة, كنت أشاهد التلفزيون ولأول مرة شاهدت حلقة من برنامج "شي إلوح افشي" المعروف لدى الكثيرين.
ولا أكتمكم أنني شعرت بغيرة شديدة تسري في عروقي وأنا أتابع تلك الحلقة من البرنامج .. كان الممثل عبد الرحمن أحمد سالم في قمة عطائه، وعبد الباقي وأحمد سالم ولد لمرابط ومحمدو ولد سيدي، ومحمد سالم ولد دندو، والطالب ولد سيدي.. كلهم كانوا يبدعون بشكل جديد علينا.. كأنهم قادمون من كوكب آخر , وكانت الملابس والديكور والنصوص كلها توحي بالتحدي والجرأة، وتكشف عن مواهب لا حدود لها.
تسمرت وأنا أشاهد تلك الحلقة وقررت الالتحاق بهذه المجموعة مهما كلفني الثمن.. وفي الصباح كلمت أحد الأصدقاء ورافقني إلى مبنى التلفزيون لم أكن أمتلك أدنى فكرة عن أي شيء آخر سوى أني أريد أن ألتحق بهذه المجموعة وبأي ثمن..
بعد انتظار طويل أمام التلفزيون التقيت بالمخرج أحمد ولد محمد لمين (مخرج برنامج شي إلوح فشي)، وعبرت له عن رغبتي الشديدة في الانتساب للمجموعة.. فحدد لي موعدا للامتحان واكتشاف موهبتي وسررت كثيرا بذلك التجاوب، ثم رجعت إلى أهلي مزهوا بيني وبين نفسي.. ولم أطلع أحدا على الموضوع إذ كنت أدرك أنه في النهاية إن كتب لي أن أنجح فيه فسوف يعلمه الجميع لسبب بسيط وهو أنه عمل تلفزيوني يتابعه الكثيرون بشوق وترقب..
في يوم المقابلة أو الاختبار حضرت قبل الموعد بساعتين وانتظرت طويلا.. كنت أتخيل أشكال من سيمتحنوني.. أتخيل الحوار والأسئلة والأجوبة.. تخيلت كل شيء وحضرت نفسي لهذا الحدث الجلل..
آه.. كم كانت دهشتي حين دخلت التلفزيون لأول مرة الأشياء كلها جميلة في نظري آنذاك .. أتذكر الزوايا ورائحة المكاتب لمعان الأروقة وأضواء الاستديو الكبير...
ودخلت الاستديو وكان معي شاب آخر من أهل تفرغ زينه يريد الانتساب هو الآخر.. أمامي كانت تجلس سيدتان إحداهما مقدمة والأخرى مخرجة تعرفت عليهن فيما بعد.. وفي الجانب الآخر جلس المخرج السنمائي ولد أيديه والمخرج أحمد ول محمد لمين، وشخصان آخران لم أعد أذكرهما إلا أنهما كان من العمال الذين يعملون في تجهيز الاستديو..
كان في الوسط ما يشبه الخشبة المستديرة وقد وجهت عليها الأضواء لتركيز انتباه الحاضرين..
كان السؤال الأول لماذا تريد المسرح.. ثم من تعرف من الممثلين.. من يعجبك منهم.. من تعرف من الممثلين الموريتانيين..
وكنت أجيب بشكل سريع وواضح كأن الأسئلة نزلت على بردا وسلاما بعدما تخيلت أني سأواجه أسئلة أكثر صعوبة وتعقيدا..
انتهت الأسئلة وتقدم صاحبي إلى الخشبة طلبوا منه تخيل سيناريو بين شخصين وتمثيله أمامهم فأدركت ما ينبغي على تحضيره ولو أن الوقت قصير وعصرت دماغي لأستحضر بعض القصص التي قد تصلح كسناريو أو حوار قصير ذي مغزى، ويكون ساخرا حتى أنال رضى المخرج ولجنة التحكيم.. الكومبارس جاء دوري وبعد ما أجبت على بعض الأسئلة عن المسرح وبعض المشاهير.. وقفت على الخشبة لأول مرة، وأذكر أنني نزعت اللثام عن رأسي وما إن نزعته حتى انفجر الحاضرون بالضحك.. ربما بسبب (شين السنطاحة) التي كانت تلمع تحت الأضواء فقد فرطصت رأسي قبل يومين استعدادا لهذه اللحظات.. وعموما سرني كثيرا أنهم ضحكوا مادامت القدرة على الإضحاك هي المقياس الأول لاختيار الممثلين..
بدأت الأداء ومثلت الدور وأعجبهم كثيرا، وكان المخرج أحمد ول محمد لمين يتندر به بعد ذلك لأنه كما يقول أضحك إحدى السيدتين وكانت قد عرفت بصعوبة الضحك، أي أنها كانت نادرا ما تضحك..
وفي النهاية تم قبولي كممثل مساعد (كومبارس في مجموعة شي إلوح فشي) ..لا يهم كومبارس أو نجم، المهم أن ألتحق بتلك المجموعة التي أعجبتني.. أقنعت نفسي بهذه الفكرة، وقلت إنه ما دامت الفرصة الأولى قد فتحت أمامي فسوف أصل إلى ما أطمح إليه..
بعد ذلك بأسبوع في دار النعيم أديت أول أدواري وكان معي في تلك الحلقة الكثير من الشباب فبالإضافة إلى مجموعة "شي إلوح افشي" المعروفة.. اشترك فيها أيضا عدد من أعضاء فرقة مسرح شنقيط... وكان المشهد الذي ظهرت فيه عبارة عن لقطة مدتها دقيقتان بمجملها وهي عن شخصية (لحلاحٍ) يحفز الناس على التصفيق والحماس في انتظار زيارة أحد المسؤولين الكبار .. ثم يتولى بعد الغداء (تشكار سنين المسؤول بشوكة من تيشط).
إنها السخرية اللاذعة التي تتميز بها أعمال المخرج أحمد ول محمد لمين.. وأحمد للعلم هو مخرج ومعد للعديد من البرامج الناجحة في التلفزيون الموريتاني، ويرجع له الفضل الكبير في ظهور بط مكعور، وبنَّه، وأعمر، وعبد الرحمن، وعبد الباقي، والكثيرين من نجوم التلفزيون.. ويمتلك ثقافة حسانية عريقة ممزوجة بثقافة غربية وروسية وبتجارب كثيرة في الحياة الموريتانية بكل ألوانها, ورغم أن البعض يأخذ عليه عدم مبالاته بقواعد المسرح الكلاسيكي، وعدم التقيد بنصوص مكتوبة في الغالب، إلا أن الرجل يعرف كيف ينتج مادة نقدية مسلية وهادفة..
المهم.. تلقيت تهنئة من المخرج وتعويض مادي قدره 2000 أوقية، ويعلم الله كم كنت فرحا بكل هذه الإنجازات... الالتحاق بالمسرح، والظهور في التلفزيون، ومبلغ نقدي، ..كل هذا في يوم واحد.. ياااااه "كم أنا محظوظ...".
تلك كانت هي البداية بكل بساطة.. بعدها توالت الأدوار والظهور لمدة سنة تقريبا قبل أن يتوقف برنامج "شي لوح فشي" بسبب اعتراض العساكر الكبار على إحدى الحلقات التي تناولت بطريقة ساخرة الأوضاع المزرية للمجند الموريتاني والمؤسسة العسكرية.. فقد كانت جرأة كبيرة من أحمد أن يتطاول على "الكبار" فدفع الثمن وتوقف البرنامج الذي كان يتابعه آلاف الموريتانيين ويترقبون حلقاته بكل شوق... والآن ما العمل ..! لقد توقف البرنامج التلفزيوني الوحيد الذي كان يشكل بالنسبة لي الجسر الذي سيوصلني إلى النجومية وإلى الحياة الرقيقة الناعمة على مقولة معروف الرصافي..
نصحني أحمد بالذهاب إلى دار الشباب الجديدة .. قال لي هناك ستجد الكثير من الشباب والفرق المسرحية وبإمكانك أن تنمي موهبتك وتستمر إلى أن يجد جديد..
وهنا.. بدأت رحلة أخرى كانت أكثر متعة حين دخلت دار الشباب الجديدة .. وجدت المسرح الحقيقي .. خشبة ..ممثلين ..سيناريوهات ومخرجين .. وشباب في عمري يعشقون الفن بكل معاني الكلمة ..
هنا فعلا مارست الهواية وتذوقت طعم الفن وأدركت بعضا مما كان يعنيه معروف الرصافي في قصيدته الجميلة ..
كان العرض الأول الذي شاهدته هو مسرحية مملكة العقل الواحد ..بطولة العملاق محمد سالم ولد دندو الذي أبدع كثيرا في دور الملك المستبد ..وأبدع محمد ولد محمد المصطفى وعبد الرحمن أحمد سالم والطالب ولد سيدي والولي ولد الشيخ يبه وعبد الله ولد الفتح والكثيرون الكثيرون ممن احترقوا هناك وحدهم ولم يجدوا التقدير ولا المكانة التي كانوا يستحقونها... دهشت كثيرا بالألوان والديكور والأضواء والموسيقى .. كل شيء في تلك المسرحية كان يبهر أي هاو مبتدئ مثلي.
ولم أطق صبرا بعد نهاية العرض فبحثت عن رئيس الفرقة... الشاب المبدع المحبوب بين زملائه المعروف بطيبته وأخلاقه... محمد ولد محمد المصطفى لعله يقبل عضويتي في الفرقة.. وقد وافق مبدئيا عليها لتكون تلك بداية مرحلة أخرى من مشواري المسرحي.. االكاتب / محمد الحسن ولد بوخوصة
Source : alakhbar
جريدة مستقلة رقم الترخيص 003 بتاريخ 19/1/2006 المقر : الحي الجامعي م 583
تلفون 00 (222) 46319207 انواكشوط ـ موريتانيا