المجتمع المدني و الديمقراطية في العالم العربي: تأملات و أفكار للنقاش    
18/04/2013

توطئة إجرائية:
تطرح إشكالية المجتمع المدني و الديمقراطية في العالم العربي من الأسئلة أكثر مما تعطي من الأجوبة. فبينما يفترض أن دور المجتمع المدني هو قبل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جماح الدولة و جموح السوق، ...



... كليهما عن الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع ضمن النموذج الثلاثي للتنمية الذي تشكل أضلاعه الدولة و السوق و المجتمع المدني، نجده ظل يشكل دوما الحلقة الأضعف في ذلك النموذج. و بينما يشير مفهوم المجتمع المدني إلى كيان مستقل عن الدولة و عن السوق، نجد في الحقيقةً أنّ العلاقات بين تلك الأطراف هي جد متداخلة و مشوشة في العالم العربي. و بينما يشكل المجتمع المدني منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة و مشاريع كونية متصارعة، نجده في الوقت ذاته موضوعا للتحدي و ساحة للصراع و المجابهة بين أطراف عديدة.

قبل سنوات، افترضت مدرسة الممولين صحة علاقة غير مبرهن عليها أصلا بين الديمقراطية و المجتمع المدني، بينما أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني و السوق. و اتجه الخطاب إلى إضاءة التوترات القائمة بين المجتمع المدني و الدولة من جهة وبين السوق و الدولة من جهةٍ أخرى، بينما فُهِمَت ضمنياً العلاقة بين المجتمع المدني و السوق على أنها منسجمة بل و متكاملة إلى أن استيقظ العالم على وقع حركة "البروليتاريا الجديدة" المضادة للعولمة (Alter mondialisme) التي استطاعت إفشال قمة التجارة العالمية في "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999 ، فقرر الإتحاد الأوروبي - و لأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف- أن يفرض الاعتراف بالمجتمع المدني – الذي سماه بالفاعلين غير الحكوميين- كشريك فاعل في التنمية من خلال اتفاق "كوتونو" للشراكة(Cotonou Accord de partenariat de) ، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) والاتحاد الأوروبي.

في العالم العربي، سعى الغرب و هيآته الممولة بشكل خاص إلى دعم إنشاء و تفعيل هيآت المجتمع المدني أساسا في منطقة الشرق الأوسط و دول شمال إفريقيا إلى حد ما، كرافعة لنشر قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان، من خلال التركيز على أجندات خاصة غالبا ما كانت مثيرة للجدل. لكن الغرب و هيآته الممولة تحاشت منطقة الخليج العربي – الغنية بموارد الطاقة- من هذا البرنامج لأسباب غير واضحة تماما.

اليوم يعود الحديث عن الديمقراطية و عن دور المجتمع العربي في "الانتقال" أو "التحول" إلى الديمقراطية بعد أن عصف الربيع بالمنطقة من خلال الاحتجاجات و الثورات في بلدان عديدة شملت الشرق الأوسط و شمال إفريقيا و منطقة الخليج العربي لأول مرة.

من أجل التفكير في هذه المواضيع و غيرها، انعقدت في انواكشوط يومي 13 و 14 ابريل 2013، ورشة تفكيرية حول " تبادل خبرات منظمات المجتمع المدني في العالم العربي"، بالتعاون بين المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية و شبكة الديمقراطيين في العالم العربي NDAW. و قد شارك في أعمال الورشة اكثر من 50 منظمة و هيأة و شبكة من المجتمع المدني في موريتانيا، بينما تولى الإنعاش و تقديم العروض خبراء من شبكة الديمقراطيين في العالم العربي هم: فادية قاسمي من تونس و فوزي جوليد من أمريكا، والمختار بن عبد اللاوي من المغرب. أما مهمة تسيير الجلسات فقد أسندت لشخصيات أكاديمية و باحثين و خبراء استشاريين في مجالات المجتمع المدني و الانتقال الديمقراطي، من موريتانيا هم: ديدي ولد السالك، و أم كلثوم بنت حامدينو/ المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية، محمد ولد سيد احمد فال الوداني/المركز الموريتاني للدراسات و البحوث الإنسانية، محمد الأمين ولد الكتاب/ نادي المثقفين الموريتانيين، محمدو لد محمد المختار/أكاديمي، و محمد السالك ولد ابراهيم/ المركز الموريتاني لأبحاث التنمية و المستقبل.

تأتي الورقة التفكيرية التي بين أيدينا تعقيبا و تعميقا لأعمال الورشة المذكورة، و محاولة لاستثمار المناخ الفكري و المعرفي و التطبيقي الإيجابي الذي رسخته أعملها. و تبقى الوثيقة في النهاية مجرد رأي كاتبها و لا تلزم غيره. و هو سيكون ممتنا لكل الزملاء الذين سيسمح وقتهم بموافاته بأية ملاحظات، أو نقد أو إثراء للأفكار التي تناولتها الوثيقة.

المجتمع المدني: إشكالية المفهوم و السياق

يشير مفهوم المجتمع المدني في الأدبيات العامة إلى كيان مستقل عن الدولة (منظمات غير حكومية) من جهة، و عن السوق (منظمات لا تهدف للربح) من جهة أخرى. لكن الحقيقةً هي أنّ العلاقات بين هذه الأطراف جد متداخلة و مشوشة في العالم العربي. و بينما يشكل المجتمع المدني اليوم منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة و مشاريع كونية متصارعة، إلا أنه يظل في الوقت ذاته موضوعا للتحدي و ساحة للصراع و المجابهة بين أطراف عديدة.

من الناحية النظرية، شكل مفهوم مدرسة الممولين حول المجتمع المدني، الذي يستند أساسا على البعد السوسيولوجي، مرجعية طالما سيطرت على أذهان كثيرين، تعتبر المجتمع المدني شكلا مجتمعيا منظما لفضاءٍ بيني وسيط، لا هو كالسوق فهو غير ربحي، و لا هو كالدولة فهو غير تسلطي. و هنا يتخذ الفصل المفاهيمي للمجتمع المدني عن الدولة أهمية بالغة ليس لأنه يعبر بدقة، و لو نظريا، عن واقعٍ قانوني و مؤسسي، بل لأنه يجعل من الممكن حماية هذا الفضاء في وجه قمع الدولة. بينما طمس الجانب الأخر للمفهوم الذي يتعلق بالتناقض بين المجتمع المدني و السوق، رغم أن دور المجتمع المدني يستند إلى فرضية أن مهمته هي قبل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جماح و جموح الدولة و السوق كليهما تجاه الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع.

استحوذت الإمكانية الديمقراطية للمجتمع المدني على تصورات الممولين في ظل وضع دولي بدأ يتجه نحو أحادية قطبية طاغية، منتشية بإرهاصات انحسار المد الاشتراكي عبر العالم. فتم افتراض صحة علاقة غير مبرهن عليها بين الديمقراطية و المجتمع المدني. و في المقابل، أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني و السوق.

و مع صعود نجم الليبرالية المتوحشة من خلال نموذجي "الريغانية" و "التاتشرية" و تقهقر الثنائية القطبية، نجح مناهضو الدولة الذين هيمنوا على نقاشات المجتمع المدني خلال حقبة الثمانينيات و بداية التسعينيات من القرن الماضي، في تغذية و تلميع صورة أسطورية حول المجتمع المدني رغم هشاشته البنيوية و ضحالته المعرفية و ضعف فاعليته في أغلب بلدان العالم النامي. فصورت "مدرسة الممولين" - التي ينظر لها البنك الدولي و الهيئات الغربية المانحة- المجتمع المدني كجبهة منسجمة لأناس طيبين يناضلون من أجل الحريات و حقوق الإنسان المهدورة ضد استبداد الدولة. و هكذا، أظهر المجتمع المدني على أنه المكان "الجيد" الوحيد في مواجهة الدولة "السيئة" برمتها. و هو ما أدى إلى بروز المجتمع المدني داخل بلدان العالم النامي "كبؤرة" مقلقة، أصبحت توظف بصورة مزدوجة لتشجيع الضغطً الخارجي على الدولة لتمرير أجندات الإصلاح و التغيير، كما أنها تستخدم داخليا لدواع سياسية حزبية أو لأغراض أمنية تقف الدولة وراءها من خلال عمليات الاختراق العديدة لهذا القطاع الذي ظل يشكل الحلقة الأضعف في النموذج الثلاثي للتنمية، الذي تشكل أضلاعه كل من الدولة و السوق و المجتمع المدني.

لكن المنظمات الأهلية استطاعت إفشال قمة التجارة العالمية في "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999. تلك المنظمات الأهلية التي أصبحت الآن تقود المفاوضات حول القضايا الدولية الكبرى (الكفاح من اجل السلام العالمي، مناهضة الحروب، الحفاظ على البيئة و مكافحة التلوث، معارضة الآثار السلبية للعولمة، الخ…) نيابة عن الحكومات أو بموازاة معها. و قد كان ذلك المشهد برمته طريقة جديدة في التعبير عن الاستياء العام من عواقب الرأسمالية الجامحة التي يؤيدها الليبراليون الجدد في الغرب وعن خيبة الأمل من قيادة الدولة المستبدة لعمليات التنمية في البلدان النامية. لقد كان ذلك جزء من تحول معياري حيال نموذج الدولة والمجتمع المدني و السوق داخل المجتمع الغربي و نخبه الفكرية التقدمية سواءً بالنسبة للاقتصاديين "الكينزيين" أو لتنويعات الاشتراكيين الآخرين.

و قد مكن نضج و تطور المجتمع المدني من تكوين قاعدة احتجاج عريضة لمقاومة طغيان رأس المال العالمي و تحميل الشركات المتعددة الجنسيات مسؤولياتها تجاه العواقب البيئية و الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لأنشطتها التجارية، كجزء من عملية الضغط المتنامي من أجل تحسين نظام الحكم الديمقراطي و تأكيد احترام كرامة الإنسان وحقوقه و الحرص على سلامة بيئته عبر العالم.

و بنما اجتهد منظرو المجتمع المدني من الأمريكيين في حشد الدلائل المختلفة على صحة العلاقة بين المجتمع المدني و الديمقراطية، و ساقوا العديد من الحجج المقنعة على مساهمة المنظمات و الفعاليات المدنية النشطة في سياسة نشر و توطين الديمقراطية في بلدان العالم النامي، و ما سيؤدي إليه ذلك من تقدم و ازدهار لشعوب تلك البلدان، برزت بإلحاح إشكالية "الاستثناء" العربي، فهل حقا يمثل العالم العربي الإسلامي "استثناء" من الديمقراطية؟

الديمقراطية: اكذوبة، وهم أم خدعة؟

يقول آرسطو في كتابه "في السياسة" "De la politique" بأن من مزايا الديمقراطية أن يكون الفقراء ملوكا في بلدانهم لكونهم الأكثر عددا، حيث أن إرادة العدد الأكبر من الناس لها قوة القانون. لكن فقراء العالم العربي لم يستطيعوا حتى الاستفادة من هذه المزية النظرية المزعومة لتغيير واقع الاستبداد و لتحسين ظروف المشاركة السياسية في ممارسة الحكم و دمقرطة الحياة السياسية في غالبية بلدانهم.

منذ الانطلاقة الأولى للديمقراطية من مدينة أثينا اليونانية (507 قبل الميلاد) و مرورا بالفاشية و النازية ، ثم صولا إلى سجون جوانتانامو(2001) و أبو غريب (2004) و فضائحهما اللااخلاقية و انتهاء بالرحلات السرية لطائرات وكالة الاستخبارات الأمريكية و اعتقالاتها التعسفية لبعض المواطنين الغربيين من أصول عربية وإسلامية، وحروب التدخل الأمريكي و الطائرات بدون طيار. عبر هذه المسيرة:

  ما هو الشيء الجوهري في الديمقراطية المشترك بين الشعوب؟

  هل يمكن اعتبار المسيرة التاريخية الطويلة للديمقراطية الغربية إرثا حضاريا إنسانيا مشتركا بين جميع شعوب العالم؟

  لماذا يشكل العالم العربي الإسلامي استثناء بقي حتى الآن مستعصيا على التفاعل ايجابيا مع هذا الإرث العام المشترك؟!

  ما هي العوامل الداخلية و الخارجية التي ميزت هذه المجتمعات و طبعت تطور ممارسة السلطة فيها على النحو الذي ما فتئ يسمح بإعادة إنتاج و تكريس طبائع الاستبداد في أنظمة الحكم مقابل استعداد الشعوب لتقبل القهر و الابتعاد عن روح التحرر و العصيان و الثورة في سبيل تغيير تلك العلاقات التسلطية؟

  هل يوجد لدى هذه المجتمعات العربية الاسلامية نخب و مثقفون يؤمنون أصلا بالمجتمع المدني و يسعون لنشر القيم المدنية في نفوس المواطنين بكل ما أوتوا من قوة من خلال نشاط ثقافي وعلمي وسياسي و مهني منتظم؟

  هل توجد نخب و مثقفون كرسوا جهدهم فقط من أجل الوصول إلى السلطة والمناصب العليا خدمة لمصالح فئوية ضيقة؟
محمد السالك ولد إبراهيم/ باحث و خبير استشاري

Source : aqlame


جريدة مستقلة رقم الترخيص 003 بتاريخ 19/1/2006 المقر : الحي الجامعي م 583 تلفون 00 (222) 46319207 انواكشوط ـ موريتانيا

contact@journaltahalil.com:البريد الألكتروني
تحاليل 2006-2022 جميع الحقوق محفوظة